انتزع لبنان اعترافاً عزيزاً وثميناً به ككيان وكوطن من تنظيم "داعش"، فالأخير أطلق على عضو فيه، نفذ عملية انتحارية ضد هدف شيعي في بغداد، اسم "أبو حفص اللبناني"، وهو اللبناني مصطفى عبدالحي ابن منطقة المنكوبين في طرابلس. فأسامة بن لادن حين نعى اللبناني زياد الجراح، قال إنه جاء من "بلاد الشام"، وقال عن المصري محمد عطا أنه جاء من "أرض الكنانة". لا أوطان ولا دول حديثة في وعي "القاعدة".
"أبو حفص اللبناني"! قد لا يُسَر اللبنانيون بهذا الاسم، ذاك أنه من غير منظومة كلامهم وأسمائهم، لكن عليهم أن يُقدروا للتنظيم خطوته النادرة. فـ"أبو حفص اللبناني" تعني أن هناك لبنان في مكان ما من وعي التنظيم الارهابي، وهو وإنْ وظف التسمية في فعل دموي وإجرامي، إلا أنه أعطى للتاريخ الحديث حقه. فمصطفى عبدالحي ولد لبنانياً وعاش لبنانياً ونفذ العمل الانتحاري ضد هدف شيعي في العراق بدوافع من المرجح أن تكون لبنانية. واللبنانية هنا ليست مواطنة ايجابية على ما تَرد العبارة في سياقات أخرى، إنما اللبنانية المشحونة بزمن الاحتقان والتخلف والاحتراب.
فلنتخيل معاً لبنانية مصطفى عبدالحي. يجب أن لا نهرب من حقيقة أن في بلدنا مصنعَ عنفٍ من غير المستبعد أن يُنتج انتحاريين في "داعش". فالشاب ابن حي المنكوبين شمال شرقي مدينة طرابلس. الحي الذي أنتج حتى الآن ثلاثة انتحاريين، إثنان منهم شقيقان، وثالثهم هو "أبو مصعب اللبناني"، علماً أن الأخير غادر أيضاً الى "الجهاد" برفقة شقيقه. نعم "الجهاد" هناك في المنكوبين عائلات وأنساب، وليس سلفية فردية على ما هي حال السلفيين الجهاديين. القابلية لـ"الجهاد" أصابت عائلات وتحولت إلى عدوى جيلية.
نفي لبنانية "المجاهدين" لا يفيد. يجب أن نكون واقعيين، وأن نحذو حذو "داعش" في الاعتراف ببضاعتنا الوطنية، وأن نذهب بعدها في البحث عن إجابة عن السؤال: لماذا ذهب أبناؤنا إلى "الجهاد"؟
يجب أن نعترف أن "داعش" قارب وجدانات فتية وشبان. فالحرب هناك في العراق طائفية على نحو ما هي الحرب عندنا طائفية. هناك سنة يُقاتلون مع "داعش" وشيعة يقاتلون مع المالكي، فلماذا ننجو نحن من هذا الانقسام؟ ما الذي يُحصننا منه؟ في طرابلس كثيرون من فتية الأحياء الفقيرة استبدلوا بروفايلاتهم على "فايسبوك" بصور "الخليفة العراقي"، وأعلام "داعش" ظهرت في بعض الأزقة. واللبنانيون هناك لا يعيشون في جزيرة، فالبغدادي أشعل حماسة يجب عدم التغاضي عن أسبابها.
"هاجر" عشرات من فتية حي المنكوبين إلى "الجهاد"، قُتل منهم أكثر من عشرة! سألت شيخاً طرابلسياً معتدلاً هذا السؤال فكان جوابه "طائفياً"، إذ قال لي إنهم يذهبون للقتال في سورية والعراق للأسباب نفسها التي ذهب بسببها شبان شيعة للقتال إلى جانب "حزب الله" في سورية!
الإجابة ليست دقيقة طبعاً، ذاك أن "حزب الله" ماكينة تجنيد متينة، وليست الحماسة ما يدفع مقاتليه للذهاب الى سورية، بل الوظيفة، في حين لا ماكينة تجنيد مركزية تدفع بفتية المنكوبين إلى "داعش".
ربما أفادت ملاحظة حازم صاغية في تفسير بعض أسباب "الجهاد" في الخارج لدى جماعتيه اللبنانيتين. فقد ذهب للقتال في سورية شبان من الشمال ومن الجنوب ومن البقاع، أي من المحافظات التي ألحقت بلبنان الكبير... وعن هذا قال لي صديق مسيحي: "رحم الله البطريرك الحويك".
