في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر للموارنة، أمثلة ساطعة عن قادة وساسة عرفوا كيف يخرجون من السياسة ومن الحياة إلى الذاكرة الجماعيّة الدافئة، وإلى صفحتهم المشرقة في كتاب لبنان، وسجلّ الكبار.
وفي الوقت نفسه، ظهرت وجوه دفعتها الصدفة، أو حالفها الحظّ، أو ناسبتها حالات انحطاط، فقدّمت صورة مخجلة عن المستوى الماروني، وشكّلت شذوذاً عن التمايز الحضاري والثقافي والأخلاقي. ومن بينها رؤساء جمهوريّة وأحزاب، ووزراء ونوّاب، وأصحاب أدوار عامّة سياسيّة وروحيّة وعسكريّة.
وبات مملاًّ تعداد الأسماء الكبيرة، منذ نشوء لبنان الكبير، من الثنائي العاقل بشارة الخوري - أميل إدّة، إلى الثنائي الرصين كميل شمعون - فؤاد شهاب (وبينهما إسمٌ كبير حميد فرنجيّة)، إلى الثنائي النبيل ريمون إدّة - بيار الجميّل، إلى ثنائي الشهادة بشير الجميّل - رينه معوّض، ومعهم آخرون تميّزوا بطول أناتهم ونصاعة سيرتهم يتقدّمهم الياس سركيس وشارل حلو.
وتكفي الإشارة إلى مواقف أربعة منهم: بشارة الخوري في استقالته الديمقراطيّة، كميل شمعون في احتوائه الحركتين الدمويّتين: ثورة 1958، وحركة توحيد البندقيّة التي قادها بشير الجميّل، فؤاد شهاب في تعفّفه الرفيع، وريمون إدّة في عناده الأنيق.
شيءٌ من هؤلاء نتلمّسه اليوم في وعي سمير جعجع، ونبله وترفّعه، يُقرّ به من يحبّونه ومن يكرهونه. ولا بدّ أن تظهر أقلام ذات يوم وتكتب في هذه الحقيقة بعد انقضائها بسنوات، كما نفعل نحن الآن عن كبار عبروا.
وكم يكون الموارنة سعداء ويفتخرون بقياداتهم، إذا قُدّر لهم إنعقاد ثنائي جديد على غرار الثنائيّات المميّزة السابقة، فيكون ميشال عون خصماً نبيلاً لسمير جعجع، لا يقلّ عنه ليونةً ورؤية وإدراكاً لمصير الموارنة في مهبّ الكرسيّ الفارغة.
في المخيال المسيحي، وفي الواقع السياسي، تنعقد هذه الثنائيّة(عون - جعجع) على زغل تحت وطأة حروبهما السابقة والراهنة. لكنّ خروجها إلى حالة الثنائيّة السياسيّة التقليديّة لدى الموارنة ليس مستحيلاً. وهذا يتطلّب لحظة وعي وصحوة إستثنائيّة لدى عون، كي يتساوى في الحرص والترفّع مع خصمه أو غريمه السياسي.
جعجع يقدّم فكرة تلو فكرة وخطوة وراء خطوة واقتراحاً بعد اقتراح، طالباً الرئاسة للبنان وليس له، باحثاً عن حلّ ومخرج يليق بالموارنة.
أمّا عون، فيدور في مكانه وعلى نفسه، لا تأخذه إلاّ فكرة واحدة: هو الرئيس أو الطوفان. لا خطوة، لا فكرة، لا تصوّر، لا مبادرة. وحده إستعطاء عطف سعد الحريري يشغله، مع رهانه على انتصار محور نصرالله - الأسد - المالكي - الخامنئي!
منذ ربع قرن، اعتاد ميشال عون أن يغادر استحقاقاته من الأبواب الخلفيّة، ويخرج منها ضعيفاً أو مهزوماً:
هكذا فعل بخروجه وحيداً من الطائف وسعيه الآن للعودة إليه لعلّه يصنعه رئيساً، ثمّ من قصر بعبدا إلى اللجوء المخجل، ثمّ خرج من بيئته الطبيعيّة في 14 آذار و"ثورة الأرز" إلى كنف 8 آذار ونظام الأسد، وبعدها خرج مصدوماً من اتفاق الدوحة، ولم يجد آنذاك تعويضاً معنويّاً إلاّ في الشعار الخاوي: إرجاع حقوق المسيحيّين بقانون الستّين!
وآخر خروجاته الآن، محاولته الإيهام بتمايزه عن 8 آذار وتحرّره من قيد "حزب الله"، لكنّها محاولة مكشوفة كثيراً إلى درجة العري، وكان هو كفيلاً بكشف نفسه في سقطات تصريحاته الأخيرة التي أكّد فيها انتسابه الكامل إلى "محور الممانعة والمقاومة"، بل الإصطفاف إلى يمينه.
وقد توّجتها سقطته بتقديم عرضه لحماية الحريري إذا انتخبه للرئاسة!
ليت في تفكير العماد عون مرشداً أو ناصحاً ذاتيّاً، طالما أنّه يفتقر إلى ناصح عاقل في بطانته، كي يُرشده إلى سبيل الخروج كبيراً من ورطته الراهنة.
فإذا اعتاد الخروج من الأبواب الخلفيّة، فهذا ليس قدراً.
أمامه فرصة للانتصار على نزوته الرئاسيّة المزمنة والأخيرة، والتغلّب على هواه إذا شاء، ولفتح أفق الاستحقاق الرئاسي، وترك بصمة مميّزة في السجلّ الماروني المسيحي اللبناني على غرار الكبار.
ولكن، مثل هذا القرار يتّخذه أصحاب النفوس الكبيرة.
فهل يستطيع؟
