لم يشهد تاريخ الرئاسة الأولى في لبنان على مدى 90 عاماً ما يشهده الآن من تصادم موقفَيْن، أو حالتَيْن، أو وجهَيْن.
خطّان متوازيان لا يلتقيان، حتّى بإذن الله!
فكيف يلتقي خطٌّ مستقيم بين معراب وبعبدا، بخطٍّ لولبي شديد الالتواءات بين الرابيه وبعبدا نفسها؟
أفرقاء كثيرون نصحوا قيادات الموارنة بترتيب شؤون بيتهم قبل الخروج إلى الآخرين. وفيما التزم المرشّح المعلن سمير جعجع بمضمون النصيحة قبل ورودها، عمل المرشّح الشبح ميشال عون بعكسها تماماً.
الأوّل كشف أوراقه، وضع برنامجه، رسم خطّته، وعقد حلقات التشاور مع أهل البيت قبل سواهم، فجال ببرنامجه ومقاربته للاستحقاق على أنداده الموارنة، وعلى المرجعيّتين الكبريين، رئيس الجمهوريّة وسيّد بكركي، إضافةً إلى القوى السياسيّة الأُخرى.
الثاني تحرّك في الاتجاه المعاكس، أهمل أهل البيت بمن فيهم البطانة نفسها، استكبر على المرجعيّتين، لعق توقيعه وتعهّده على ميثاق بكركي، طلب الرضى الرئاسي ولو في باريس والرياض وروما، عملاً بحكمة الأجيال: أطلبوا العلم(الكرسي) ولو في الصين!
وما يؤلم أيّ مسيحي، وأيّ لبناني، أن يتبلّغ طامح ماروني إلى الرئاسة كلاماً عاقلاً رشيداً من مرجعيّة غير مسيحيّة ينصحه فيه بالانفتاح على خصومه من الموارنة والمسيحيّين قبل كسب ودّ أيّ مرجع آخر.
والأشدّ إيلاماً أن يتلقّى هذا الطامح درساً قاسياً من مضيفه، هذا هو فحواه: إذا قبلتُ بك رئيساً وانتخبتكَ مع 40 من نوّابي، فماذا سيُقال عنكَ وعنّي؟ بكلّ بساطة سيُقال عنكَ إنّكَ صنيعة السنّة والشيعة معاً وليس الموارنة، وسيُقال عنّي إنّي صنعت الرئيس الماروني، وهذا ما لا يقبل به رفيق الحريري، ولا رياض الصلح، ولا الوجدان اللبناني، والمسيحي تحديداً، ولا يحقّ لي أن أخرج عن تراث هذين الرجليْن العظيميْن، وعن معنى الشراكة اللبنانيّة الحقيقيّة، ولن أُسجّل على نفسي مثل هذا الممسك القبيح.
هذا الكلام الذي يُمكن أن ينزل كصاعقة على أيّ صاحب كرامة، لم يغيّر في سلوك الضيف المتوسّل شيئاً، فاستمرّ في الحفر داخل منزله، وبدلاً من التروّي والأخذ بالنصيحة، ردّ عليها بتكليف بعض صِبْيته النكء في الجروح والقبور على أوراق الاقتراع في مجلس النوّاب، وأوعز إلى خليفته بأن يربط علناً ترشيحه برضى سعد الحريري( سعد الدين في أدبيّات عدائيّاتهم السابقة - اللاحقة!).
مشهد مقابل قدّمه سمير جعجع بانفتاحه على أهل بيئته، وبموقف نبيل ومترفّع أعلنه من بكركي بقبوله أيّ مرشّح جدّي للرئاسة يحمل البرنامج السيادي لـ14 آذار وتكون له حظوظ أكبر في النجاح. فالرئاسة عنده قبل شخص الرئيس، ومصير الجمهوريّة قبل بريق الكرسي.
ولعلّ أبلغ ما قيل عن التعطيل الذي مارسه عون و"حزب الله" لجلسات الانتخاب، جاء من البطريرك الراعي حين قال لجعجع: ألأنّك ترشّحت يقاطعون، هل هناكَ علم جديد للديمقراطيّة لا نعرفه؟
لقد طعنوا الديمقراطيّة بحجّة الحقّ في الغياب عن الجلسات، وسخّفوا الاستحقاق بتحويله بازاراً مفتوحاً للبيع والشراء، وفرّغوا الدستور من أهداف المشترع، وجعلوا المقام الأوّل كرسيّاً مخلّعاً على قارعة المساومات.
حين يلتقي قادة الموارنة قريباً في بكركي، ولعلّه اللقاء الأخير، لا بدّ من كشف كلّ الأوراق، وفضح من أخلّ بتعهّده، ومن أنكر التزامه قبل صياح الديك، ومن يعرّض موقع الرئاسة للابتزاز.
وبمقدار ما رفع الرئيس ميشال سليمان و د. جعجع الموقع إلى مستواه الأصيل، سترفع بكركي الاستحقاق من بين لعبة الأقدام، وأداء الأقزام.
لقد فرح اللبنانيّون، وخصوصاً المسيحيّين، بغضب بكركي المقدّس على ألسنة الشرّ التي تطاولت على المقام بسبب زيارته الأراضي المقدّسة، وينتظرون الغضب المقدّس نفسه على منتهكي حرمة المقام السياسي الأوّل، ومشوّهيّ استحقاقه.
وبين الغضبَيْن، يتمّ فصل قمح الموارنة عن زؤانهم.
فليس كلّ الطرق تقود إلى روما، أو إلى الطاحون. الطرق الملتوية لا توصل إلى بعبدا، وأقصر الطرق هي القويمة.
لقد حان وقت تقويم التواءات السياسة المارونيّة. ولا خطّ مستقيماً إلاّ بين بكركي وبعبدا.
ومن يَعْلم يَسْلم.
